
ما وراء الكلمات مع الفنان السعودي مهند شونو
أعمال الفنان المقيم في الرياض، مهند شونو هي ثمرة حالة وجودية تتجاوز حدود الزمان والمكان وتسرح في عوالم الخيال
تطغى الخطوط السوداء المتعرجة على قطعة طويلة من الورق الأبيض، بينها تبرز لطخات من الفحم والحبر الأسود لتنسج لوحة تشبه أغصان الأشجار المتشعبة. يبدو العمل أشبه بيد كائن مجهول أو ربما شبح أو شخص تعثّر في طريقه وترك آثاره على الأرض، حيث تعتبر لوحة (هذه هي الكلمة الأولى والأخيرة) التي أبدعها الفنان السعودي مهند شونو 2019 من الفحم والحبر على الورق من الأعمال العديدة التي عُرضت في معرضه الفردي الذي يحمل عنوان (السكون ما زال يتكلم)ضمن معرض أثر بجدة.
يتناول المعرض منظور الفنان لأزمة الكلمة من خلال استخدام الألوان والاهتزاز، حيث يطحن مهند كلمات الفحم المتصلبة ويستخدم الاهتزازت ذات الطيف غير المسموع ليبدع كلمات جديدة تخطها الأشكال العشوائية للحبر الأسود على الورق، ويتجاوز معناها حواس السمع والبصر ليسرح بين الخطوط العشوائية.
مهند شونو “وراثة المعنى” 2019. 200×100 سم
تأتي إبداعات مهند على الورق نتيجة تساؤلاته عن الأساليب المتغيرة لسرد القصص في المجتمع المعاصر، حيث يرى أن البشر يميلون إلى القصص والأساطير التي تلهمهم في بناء عوالم الحاضر والماضي والمستقبل، هذا ما يأتي من حالة الفنان الوجودية التي تتجاوز حدود الزمان والمكان وتسرح في عوالم الخيال، لتحرر الفنان من إحساسه بالغربة وعدم الانتماء.
ويقول الفنان الذي ترعرع في السعودية: “ولدت في السعودية لوالدين سوريين تعود أصولهما إلى جنوب روسيا، كان هذا قبل انتشار الإنترنت حين كان من الممكن مصادرة أي نوع من الأعمال الفنية في المطارات. وبسبب إدراكي لهويتي وأصولي غير السعودية منذ سن مبكرة، شعرت بالعزلة وعدم الانتماء، مما دفعني للاستعانة بمخيلتي وإبداعي للهروب من الواقع». إلا أنه لم يكن قادراً على الهروب من الواقع بالكامل، لذا بدأ بكتابة القصص ليبحر في عالمٍ خيالي آخر من نسج إبداعه.
مهند شونو The Silent Press 2019 التركيب بالفحم على ورق الصحف.
“دفعني شعوري بالعجز إلى ابتكار شخصيات خيالية في الكتب المصورة تعبر عن هويتي في محاولة للبحث عن الواقع بين سطور الخيال، ولكن سرعان ما وقعت هذه العوالم ضحية المعتقدات السائدة في السعودية في ذلك الوقت». كان هذا بمثابة اعتداء على عالم مهند الخيالي، حيث كانت الشخصيات حرة في السفر والعيش بما يعكس رغباته الشخصية. لكن كل شيء تغيّر الآن في المملكة: “لم تعد السعودية كما كانت، حيث أصبحت تلك الصورة مجرد صورة قديمة في طي النسيان، لكن التغيير حدث بسرعة كبيرة، وهذا ما علينا أخذه بعين الاعتبار”.
كل هذه التغييرات هي مواضيع يتناولها مهند في عمله: “غالباً ما تسرح أعمالي بين المواد والأساليب بسبب خلفيتي كمغترب وعدم رغبتي في غرس أي نوع من الانتماء لمكان محدد”. تشمل أدواته الحبر والورق والأفلام والنحت والتقنيات الميكانيكية: “غالباً ما يميل عملي نحو السرد والأسطورة والعقيدة في سياق واحد يجمعها مع عوامل مختلفة لتحدي الواقع، فعلى سبيل المثال، يميل عقلي دوماً إلى مزج جوانب من التاريخ أو الأسطورة وإيجاد نقاط الوصل والاختلاف بين الأشياء”.
مهند شونو. The Lost Path، عمل مصنوع من 65,000 أنبوب PVC قابل لإعادة التدوير. 2020
درس مهند العمارة في السعودية لأنها كانت المادة الأقرب للفنون الجميلة في المملكة، ثم انتقل للعمل في مجال الإعلان والقصص المصوّرة قبل أن يكرس نفسه بالكامل للفن: “ألفتُ الكتب المصورة بسبب اهتمامي بها كوسيلة مستقلة للسرد القصصي المتسلسل تتيح ابتكار عوالم من نسج الخيال”. كان كتابه المصوّر الأول من أولى القصص المصورة في السعودية، لكنه الرقابة منعت إصداره بسبب ممارسة الكثير من شخصياته للسحر: “قيل لي إن السحر ممنوع لذا لم يُسمح لي بطباعة الكتاب”.
انتقل الفنان إلى أستراليا من عام 2007 وحتى 2015 قبل أن يعود إلى السعودية، حيث يصف التغييرات التي يواصل استكشافها في إطار عمله: “عندما عدت لاحظت التغيير؛ حيث كانت السعودية مكاناً مختلفاً وأصبحت الحياة مختلفة بشكل جذري عما عهدته خلال طفولتي، فقد اختفى التمييز بين الرجل والمرأة في بعض المجالات ومنها القيادة. وأصبح الناس يحملون طاقة وطموحاً وعفوية مع الكثير من المواهب التي تزدهر الآن من حولي”.
The Lost Pathمن مهند شونو في صورة مقربة
تتسم لغة مهند الفنية بطابعها التجريدي الذي يعتمد على مجموعة متنوعة من المواد والتقنيات، حيث تفسح المجال للمشاهد لإعادة النظر في مفاهيم وأسئلة حول الأساطير الدينية والثقافية: «يلفتني الاستخدام الكبير للأسلوب التجريدي في الفن السعودي لأن هذا يحاكي تجربتي الخاصة، فإذا لم يكن هناك مدارس فنية لاكتشاف الجوانب الرمزية للفن أو تصوير أمور الحياة الواقعية، سيلجأ الفنان إلى تطوير مخيلة واسعة تتيح له التفكير بطريقة تجريدية مبتكرة، وهكذا يصبح التجريد لغة بصرية جديدة.
ومنذ عودته إلى الرياض، أقام مهند العديد من المعارض الفردية، بما فيها معرض (أطفال يام) عام 2016 في معرض أثر؛ و(آلة الطقوس) في كونستلرهاوس، برلين عام 2018 والذي تم عرضه في مركز إثراء بالدمام لاحقاً ذلك العام، بالإضافة إلى العديد من المعارض الجماعية في المتحف البريطاني بلندن ومتحف برشلونة للفن المعاصر وبيت ثقافات العالم في برلين ومعرض آخر في تورونتو وغيرها الكثير. اختير لعدِّة إقامات فنية في أوروبا، مثل: كُستزيدنز في بادغاستين، النمسا 2017، وفنّانون في المختبر في زوريخ، سويسرا 2017. كما يشارك حالياً في برنامج إقامة فني لمدة عام في كونستلرهاوس ببرلين، وتم اقتناء بعض أعماله من قبل المتحف البريطاني ومعرض الفن جميل. شملت أبرز قطع معرض (السكون ما زال يتكلم) مجسماً ضخماً من ثلاث لفافات من الأصبغة الملتصقة على الورق كالمطبوعات الصحفية القديمة، لكن بدلاً من الكلمات يفاجئنا مهند بخطوط وأشكال عشوائية من الحبر والفحم في لغة فريدة من نوعها، حيث يجسّد المجسم دعوة صامتة لتحرير الكلمة من قيود النص في عوالم لا حدود لها من المعاني: “يستوحي العمل إلهامه من علاقتي الغريبة مع اللغة، فأنا أعاني من عسر القراءة في اللغة الإنجليزية ولا يمكنني التهجئة، مما يسبب لي الشعور بالتوتر عندما يُطلب مني الكتابة أو التهجئة أمام أي شخص أو قراءة أعمالي من قبل شخص آخر، بينما تمزج حروفي العربية بين لهجات أصولي المختلفة، وهي ليست التجربة المثالية لطفل يحاول التأقلم والشعور بالانتماء”.
لكن فكرة العمل تتجاوز ذلك لتعكس الرغبة في حرية التعبير: “تجسد ظلال الفحم وحيدة اللون مفهوم الكلمة الحرفية والمليئة بالكراهية والقيود، والتي يمكن تشبيهها أيضاً بأصل الكون في مفردات مفعمة بالمعاني. ويتناول العمل قصة نمو الأجيال في السعودية، حيث لم يُسمح لنا بالتشكيك في مواضيع معينة، وكانت أية محاولة لاكتشاف حقائق جديدة ممنوعة بتاتاً، فكان من المتوقع منا أن نأخذ الأمور كما يتم تلقينها لنا”.
كما يمثل العمل التغييرات التي تشهدها المملكة العربية السعودية اليوم. “يعكس العمل هشاشة المعتقدات البالية وضياعها في عوالم لا متناهية من الاحتمالات”. وبالنسبة لمهند وراهول جوديبودي، أمين المعرض، قدمت خطوط وظلال الأصبغة معان لا حدود لها، حيث قام شونو، كما فعل مع الأعمال الأخرى المعروضة، بتحريك الأصبغة بفعل الاهتزاز لتسليط الضوء على المعاني المحتملة الجديدة، و يقول: “نتجه نحو آفاق واعدة مع انفتاح المملكة”، هذا ما عبر عنه مهند من خلال عمله الضخم بعنوان (مسارات وأحلام وحالات متدفقة)، والذي تم عرضه في معرض نفثَه برعاية معاذ العوفي في قصر خزام بجدة عام 2019، وفيه يضع الفنان عشرات الأنابيب البلاستيكية القديمة الفارغة التي تتحرك دون جدوى بين زوايا غرفة مغلقة، لتسليط الضوء على اعتماد السعودية على النفط. وبينما تسعى المملكة جاهدة لتحقيق التنوع الاقتصادي بعيداً عن النفط، كان لعمل مهند معنى آخر، حيث يمكننا رؤية محتوى الأنابيب كمصدر جديد وحيوي لازدهار المملكة، ربما يكون هذا مجرد إبداع أو بصيص أمل يلوح في الأفق. muhannadshono.com
نشر للمرة الأولى في عدد هاربرز بازار السعودية صيف 2021