
على طريقة ساباتو: تعرفوا على المصمم الذي أحيا إرث الدار واستقال دون أي مقدمات
يؤمن المدير الإبداعي لدار غوتشي، ساباتو دي سارنو، أن إحياء رونق الدار الإيطالية لا يكمن في تخليد ذكراها، بل في صياغة تاريخه الخاص.
إذا مررتُ يومًا على شمال بنك أرانو ريفر في فلورانسا، إيطاليا، وبالتحديد أمام مبنى أرشيف دار غوتشي الذي يحمل تاريخًا يمتد لأكثر من 15 عقدًا زمنيًا، فلا تتعجب إذا علمت أن هناك شبحًا يتجول في الداخل. شبحًا؟ إذا لم تصدق ما قرأته عيناك للتو، فاعلم أن هذه ليست أسطورة بل حقيقة، حيث يؤكد العاملون بالأرشيف أن روح المؤسس الأول للدار، غوتشيو غوتشي، لا تزال معهم في إحدى الغرف، وتصدر أصواتًا وضوضاء غامضة.
سواء كانت حقيقة أو خيالًا، لا بد أن نتوقف لحظة لتأمل هذا المكان الذي يروي قصة تاريخية عريقة. هنا كان المصنع السابق وورشة العمل لدار غوتشي، والتي أصبحت اليوم الأرشيف الذي يحافظ على الوثائق الأصلية والقطع الأيقونية التي أطلقتها الدار على مدار 103 سنوات. من بين هذه القطع، حذاء هورسبيت الذي امتلكه غوتشيو غوتشي، ولوحات الزهور للرسام فيتوريو أكورنيرو، وبدلة توم فورد الحمراء المخملية، وحقيبة ديونيسوس التي تعود إلى أليساندرو ميشيل. جميعها مقتنيات أيقونية أصلية تعود إلى هذه الدار الفاخرة.
أما عن الحاضر، ها نحن نجلس أمام من يقود الدفة، وبيده زمام الأمور لكتابة فصل جديد لدار غوتشي، عمره في الحياة 41 عامًا، وعمره في الدار عامين كاملين. أجرينا هذا الحوار في غرفة ذات سقف عالٍ مغطاة بألواح خشبية تشبه المكتبة، لكن محتواها يختلف، حيث استبدلوا الكتب على الأرفف بعرض مذهل للحقائب. فالجدران مغلفة بالزجاج الذي يحمي القطع الأشهر على مر التاريخ، بدءًا من حقيبة “ذا جاكي” وصولًا إلى حقيبة “ذا بامبو” 1947، ثم حقيبة “ذا بلوندي – ستوبيندو”.
يخبرنا دي سارنو، وعيناه سابحةٌ ساحرةٌ في أرجاء الغرفة، ناظرًا إلى القطع الأقرب إلى قلبه: “إنه مكان ساحر”، ويستكمل: “كل قطعة تحكي قصة ثمينة لدار غوتشي، فهم أكثر من مجرد تصاميم جلدية أو علامة أزياء، إنهم أسطورة. وأود من كل قلبي أن أضيف أساطير جديدة للدار”.
يطيب لدي سارنو ارتداء القميص الأسود السادة مع الدينيم والحذاء الرياضي بنفس اللون، ويندر أن يستبدل القميص الأسود بالأبيض، مشددًا: “اللون الأبيض مخصص للأيام السيئة، لأنني أحاول أن أحارب الظلام بالنور. وأنا أؤمن تمامًا باستخدام الأزياء كلغة للتعبير. لكن بشكل عام، أرتدي الأسود لأن جميع أيام الحياة جميلة، وأنا شخص متفائل دائمًا”.
في أقل من أسبوعين، سيكشف دي سارنو عن مجموعة ربيع 2025 في ميلانو، وتحديدًا في متحف الفن والتصميم “لا تيرنينال”، الذي عرض فيه آخر مجموعاته الرجالية في يونيو الماضي. وهنا يشير المصمم الشهير إلى أنه شخص يبالغ في إيجابيته، ولا تهزمه مفاجآت اللحظات الأخيرة. فمهما حلت المصائب على كاهله قبل أي عرض، لن يظهر أي تأثر البتة. ويعقب: “في السنة والنصف الأخيرة، حدثت الكثير من الأمور، بعضها رائع والبعض الآخر أواجهه للمرة الأولى. لقد كان عامًا غامرًا بالميلاد الجديد واللحظات الأولى”. ويستكمل: “لكن هذا حديثنا الثاني، لذا أشعر بالاسترخاء”.
تاريخ غوتشي الغني هو سيرة كاتب بارع ومؤسس ضليع للحظات فارقة في ثقافة الأزياء وتنسيق المظهر العام للمجتمع على مدار عقود. كان الهدف من إنشاء الدار في الأساس هو إنتاج أمتعة جلدية يدوية الصنع. وقد كانت رؤية المؤسس غوتشيو غوتشي عام 1921 تتلخص في أن تصبح الدار الناشئة رمزًا للفخامة العالمية. وسرعان ما أصبحت تصميمات غوتشي، التي كانت من الطراز الرفيع، قريبة من قلب جاكلين كينيدي أوناسيس، خصوصًا بعد الكشف عن حذاء “هورسبيت” ونقشة “ذا فلورا”.
في عام 1990، عُين توم فورد مصممًا إبداعيًا للدار، حيث أراد إعادة هيكلتها من خلال إطلاق مجموعة من الألبسة الجاهزة التي كان لها أثر جلل على عالم الموضة، إذ اتسمت بروح الجرأة والسحر الحسي. وفي الآونة الأخيرة، استطاعت إلهامات أليساندرو ميشيل، التي تتسم بالتطرف والمغالاة، أن تعكس روح العصر لمحاكاة عالم خيالي موازي.
حتى الآن، أطلق دي سارنو 6 مجموعات للألبسة الجاهزة، أعاد من خلالها رسم نهج غوتشي المعروف ورؤيتها لتتمحور حول القوة، العملية، والقطع الأساسية. حيث التركيز على البنطال فاخر الصنع، والمعطف المحيك ببراعة، والملابس الحريرية المونوكرومية الناعمة، والنقوشات الدقيقة، وإكسسوارات ذات تفاصيل مبتكرة، كل ذلك مع صور ظلية أو قصات تناسب الحركة اليومية.
يعود بنا هذا النمط إلى يوم الميلاد، حيث يخطو دي سارنو على خطى طراز غوتشي الشهير الذي يدعم البساطة والأصالة. ولعل ما يساعده هو سيطرة هذا الاتجاه على عالم الموضة حاليًا. مع سئم الناس من الأفكار التجارية المفرطة، أصبح الأسلوب الشخصي البسيط هو الحلم، وهذا بالضبط الطبل الذي يقرعه دي سارنو في غوتشي.
غوتشيو غوتشي
برغم أنه روائي طموح، إلا أن بدايته كانت متواضعة جدًا، حيث افتقرت إلى الابتكار. استلهم غوتشيو قصة الدار وشعارها الأول من عائلة غوتشي المحبة للفروسية، لذا كان رمز الدار الأول عبارة عن فارس محاط بوردة وعجلة. ورغم أنه رمز للعائلة النبيلة، إلا أنه استحوذ عليه لنفسه أثناء صياغة فصله الخاص.
من مؤسس الأمس إلى قائد اليوم، نشأ دي سارنو وسط عائلة مترابطة في كيكيانو، إحدى المدن القريبة من نابلس، والآن يقيم بين ميلانو وبروكسل في منزل يضم كلبين هما لوسي وبينا. على المستوى الشخصي، هو كتاب مفتوح لدرجة أنه أصدر مع مجموعة الربيع الماضي للدار فيلمًا وثائقيًا قصيرًا بعنوان “من هو سوباتو دي سارنو؟”، بطولة الممثل بول ميسكال. قبل تعيينه في غوتشي، أمضى دي سارنو عقدين من الزمن في العمل خلف الكواليس في برادا، ودولتشي آند غابانا، وفالنتينو. ولذلك، لا عجب أنه، في سن الشباب، يبرع في رواية قصص رائعة عبر الأزياء ويتقن كيفية إدارة دار أزياء فاخرة بطراز خاص وفريد، حيث يتسم أسلوبه بالبساطة، الاختصار، الوضوح، وتسليط الضوء على الجوهر.
يصرح دي سارنو: “خلال عام واحد، بات لدي الكثير من البصمات داخل غوتشي، لأنني أفكر خطوة بخطوة، موسمًا بعد موسم، مجموعة بعد مجموعة. ولأن داخل الدار، لكل مجموعة نبني لها غرفة خاصة، فأنا الآن لدي ست غرف. وفي المستقبل القريب، ستغمر دار غوتشي إبداعاتي كالفيض”.
لقد ركز على التفاصيل والأقمشة العملية وصقلها، مثل الجلود الناعمة المتينة المستخدمة في الأكسسوارات، وخياطة الشرنقة كبيرة الحجم في معاطفه. لقد لعب بالزخارف، لكن باعتدال. نسق القمصان والفساتين الكريستالية مع الدينيم، ونسق الفساتين المزينة بالخرز مع جوارب تصل إلى الكاحل وأحذية لوفر من غوتشي “هورسبيت”. أتقن دي سارنو كيفية تنسيق الحذاء الأيقوني خلال مجموعته الأولى التي حققت نجاحًا ساحقًا. كما أضفى ذوقه الخاص في تنسيق حقائب “جاكي” و”بامبو”، التي قام بتصغير حجمها وتزيينها ببراعة بالكريستال، وانتهى بها الأمر مطلية بألوان النيون.
وعلى ذكر الألوان، يولي المصمم اهتمامًا خاصًا، حيث قدم دماء ثورية تُسمى “روسو أنكورا” – وتعني “مرة أخرى” باللغة الإيطالية – وأصبح هذا اللون علامة مميزة لعصر سوباتو في غوتشي.
صباحًا جديدًا يحلق في آفاق غوتشي
تشير مايلي سايروس التي ارتدت فستاناً مزيناً بالترتر من غوتشي في حفل توزيع جوائز جرامي هذا العام:”كان الفستان صاخبًا، لكنه أعطاني مساحة لأن أعبر عن ذاتي. وهو أمر نادر الحدوث عندما تتحدث الملابس بدلًا عنك وتلغي كينونتك”. وتؤكد أن تصميمات دي سارنو تمنحها مساحة التعبير وتوضح:”ارتدي من أنامله ما يعبر عن نفسي دون الحاجة لتمثيل الراحة في ملابس غير مريحة”.
يعقب دي سارنو على ذلك:”لا أريد أن أطليك بكينونتي، أريد أن أراك، وبمعنى أخر أرغب أن أراك ترتدي غوتشي، وليس غوتشي هي من ترتديك. لا أرغب في تصميم ملابس تعبر عني، بل تعبر عن من يختارون دار غوتشي ليرتدون منها”.
تتجلى روح دي سارنو المتمردة كمصمم ومدير إبداعي في إصراره على خلق بصمته الخاصة في هذا العالم، ورؤيته الثابتة والتي اختار لها أناس بأعينهم ليمثلوا الدار في هذه الفترة. وقد شمل ذلك الإستعانة بعارضة الأزياء داريا ويربوي، التي حصلت على إجازة تفرغ لمدة عام لتكون واحده من الوجوه الإعلامية للدار. ولتكون بطلة الحملة الأولى لدي سارنو التي صورها ديفيد سيمز. ويوضح المدير الفني ريكاردو زانولا:”الحملة التي صورناها مع داريا هي الملخص الوجيز لرؤية دي سارنو ورغبته في نثر الحميمية والثقة التي تربط غوتشي وتراثها مع محبيها”.
أينما حطت قدماه، أُلهمت عيانه. هكذا يكون المبدع الذي يشارك عبر حسابه الخاص على إنستغرام منشورًا يظهر إهتماماته المتنوعة حيث مجلد عن لوسيو فونتانا؛ صورة لجاكي أو في السبعينيات؛ لوحات لجورج كوندو في مؤسسة ديستي في أثينا؛ أجزاء من الشعر؛ دائري يبدأ بـاقتباس من المؤلف والكاتب المسرحي صموئيل بيكيت، متبوعًا بصورة بالأبيض والأسود لبيكيت وهو يرتدي حقيبة غوتشي. يليها صورة لتصميم دي سارنو لنفس الحقيبة بإصدارها الجديد غوتشي بي.
مجموعة العطلات 2025
أطلقت الدار حملة إعلانية من بطولة المغنية الشقراء الشقراء ديبي هاري، وتصوير نان غولدين ويعلق عليها دي سارنو: “إن جمال جوهرها هي الشيء الذي أثر في دائمًا”. ويستكمل:”الطريقة التي تلتقط بها النشوى والحالات المزاجية الانتقائية والطريقة التي تصور بها الناس في لحظات حميمة – هم جميعًا الأقرب إلى قلبي. وأردت أن تكون ديبي هي النجمة بسببها وموسيقاها وقصتها. هناك دائمًا ما هو أكثر من مجرد حقيقة أن شخصًا ما مشهور”. هذه النظرية لا تنطبق فقط على المشاهير من البشرة بل وأيضًا على التصميمات الأيقونية. وهذا ما قام به المصمم عندما أضاف لمساته الخاصة إلى حقيبة بلوندي، مع تكرارات جديدة بما في ذلك الأشكال المربعة والألوان الزاهية.
استفادت هذه المجموعة من الجانب الأكثر عاطفية، مع العباءات ذات الطيات الأثيرية والسترات المنفوخة. وبالنسبة لربيع 2025، هناك إضافات مرحة وسط القطع الأساسية المعاد صياغتها حيث الدينيم والبنطال المترهل، مع القمصان البيضاء عاري الأكمام المصنوع من القماش المضلع المخطط باللونين الأخضر والأحمر.
كل ذلك مصحوب بنظارات شمسية كبيرة الحجم، وأغطية للرأس. وتتميز المجموعة أيضًا ببدلات قصيرة تحاكي زهرة التوليب المنسقة مع كعب لوسيت، لتتناسب مع مدونات الموضة الشهيرات على إنستغرام وتيك توك.
قدم دي سارنو هذه المجموعة في معرض تاتي موديرن للفنون في لندن، مصرحًا أن ميلاد أفضل أفكاره على الإطلاق يكون أثناء التجول داخل هذا المتحف، فالفن لديه هو الركيزة الأساسية للإلهام، يكشف دي سارنو:”عندما أسافر، أول ما أقوم به هو البحث عن معارض ومتاحف”.
ويستكمل:”أجد دائمًا شيئًا يمكنني تعلمه، وهو التطابق المثالي بين الأشياء الجديدة والأشياء القديمة معًا. أحب أن يكون الجميع في المتحف متماثلين. لا توجد طبقات بين الناس. يمكنك رؤية الفن الملهم وأيضًا فن الأطفال الصغار. أحب فكرة مشاركة الأشياء مع الجميع وليس اختيار الأشخاص”.
يظل سوباتو دي سارنو عازمًا على الحفاظ على نفسه في مكان يشعر فيه بالإلهام. ويقول: “الإبداع شيء حقيقي وشخصي”. ويضيف: “يتعلق الأمر بالطريقة التي أختار بها الأشياء، وبحساسيتي. يتعلق الأمر بتجاربي، وكذلك باللحظة التي أعيشها”.
يوضح دي سارنو أنه في لحظاته الكبيرة، وخاصة خلال عروضه الأولى لغوتشي، كان يحاول تغيير المزاج بسبب الضغط الكبير الذي يحيط بتلك اللحظات. ويشير إلى أنه إذا كان بإمكانه تحسين تلك اللحظات من خلال الرقص والغناء، فلا يتردد في ذلك.
عند توقفه لفحص الأرشيف من حوله، يعبر دي سارنو عن رغبته في إقناع الشركة بفتح المبنى أمام الجمهور. ويؤكد أن ذلك سيمكن الناس، وخاصة الشباب المهتمين بالموضة، من الحصول على نفس التجربة التي يحصل عليها خلال زياراته للأرشيف.
وعن النظرية التي تشير إلى أن شبح غوتشيو غوتشي يطارد الأرشيف، يبتسم دي سارنو ويعلق: “أوه حقًا؟ ربما يأتي ويقاطعنا إذا قلت شيئًا لم يعجبه”.
ويشرح دي سارنو قائلاً: “كل شيء في الأرشيف يقول شيئًا مختلفًا؛ إنه قصة. وآمل أن يخلد هناك جزء من قصتي هنا أيضًا”.
ترجمة : رودينا ناصر
اقرؤوا أيضًا: