شجرة الحياة ترويها “وصفات للقلوب المكسورة”
منذ سنبلة آدم وحواء -عليهما السلام- وحتى آخر لقمة مُغذّية في هذا الكون؛ تتقاطع مختلف أبعاد الطعام في تناغم يمس جلّ ما يُعنى بوجودنا كمخلوقات..
نفيض برفقة التناول منذ بدء الوجود نزولًا إلى هذه الحياة الدنيا؛ إذ كان مطلع أحداث نزول أبوينا آدم وحواء -عليهما السلام- يدور حول شجرة محرّمة وُعدوا تجاهها بالخلد. حتى ترتحل امتداداتها على مدى التاريخ وبسرعة الضوء وصولًا لـ “الطبق الذي أمامك” اليوم بمجمل أبعاد اعتباره ممارسة قائمة بحد ذاتها! بصورة تجعل منه أشمل الفنون وأكثرها تأثيرًا على تفاصيل أيامنا.
فقد ورد ذكرٌ لـ أحكام تناولت شأن الطعام في عدد من سور القرآن الكريم، حيث يفسّر ابن كثير الآية 22 من سورة الأعراف كالتالي “كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته السنبلة فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما… (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) ورق التين يلزقان بعضه إلى بعض”. وصولًا لقول وهب بن منبه “كان لباس آدم وحواء نورًا… فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما”.
مداد المائدة
تثمر “شجرة الحياة” ببركة ونبضها “مائدة لا نهائية” بأبعد ما يمكن أن تفترضه العبارتين من معنى. حتى أتت أداءات بينالي الفنون الإسلامية “أوّل بيت” مطلع العام 2023 في وفرة لا زالت تروي فكرنا العطِش بعد طول صوم عن عتيق ارتحالاتها. إذ شكّل فعل التذوّق الجمعي جوهر عدد من أحداث “أوّل بيت” منها تجربة “سوق بينالي” حيث قُدّمت الأطباق التقليدية بالتزامن مع شهر رمضان وعيد الفطر المباركين – عبر سياقات أزهرت ثناياها في الحل والترحال.
مثلما احتضن “أوّل بيت” أعمالًا تأخذ من ذاكرة الطعام محورًا لها، كـ أداء “سلة عيش” المقام تحت مظلات صالة الحجاج الغربية – ليدور العمل حول أصناف الخبز على لسان الفنانة موزة المطروشي. إلى جانب “إفطار لا نهائي” للفنانة لبنى شودري بحيث تعكس سِعة المفهوم عبر هيكل يعتمد تقاليد المجلس – بطاولة منخفضة ترمز لترحيب ممتد ولانهائي للمزيد من الضيوف. يقام كذلك أداء “الحلم ببحر من الأرز” بإيحاء من زراعة الأرز في الأحساء على يد الفنان محمد الفرج بالتعاون مع 35 من فناني الأداء – ليتناولوا معًا مدار الصوت والشِّعر عبر سعف النخيل.
وصولًا نحو تجاوبات بينالي الدرعية للفن المعاصر 2024 “ما بَعد الغيث” بحيث يضمّ سحورًا رمضانيًّا بتنسيق الثنائي لوسي وخورخي أورتا – تُشرف على تحضيره الطاهية السعودية حصة الھذیلي “مطعم سھیل” في امتداد يكرم 300 من الضيوف. وبإطلالة نحو وادي حنيفة اعتبارً لمسير قوافل الحجاج على طول الوادي تجاه مقر السوق (فيما مضى) حيث التزوّد بالماء والطعام. لتكون المائدة بمثابة الفصل الـ 46 للمشروع المستمر “70 × 7 الوجبة” للزوجين الفنانَين.
تتخلل ذلك المساء فنونًا تعلوا المائدة عمل عليها جمع من خبراء التراث وعلماء النباتات والمزارعين. فمن خلال بحث ميداني يحلل أصناف النباتات المحلية بالتعاون مع المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر؛ تعكس الأعمال حسن الحِرفة عبر أنسجة حيكت يدويًّا من مؤسسة آثارنا. كما تحوي المائدة أعمال الزوجين أورتا على هيئة أطباق خزفية في قلبها رمزيات ھندسیة تتّسم صرامة أدائها بوفرة المحصول – ولب بيانها “خصوبة طبيعة وادي حنيفة والرياض التي باتت تواجه مؤخرًا زحفًا في التنمية الحضرية الغير منسجمة في الغالب تجاه المعارف التقلیدیة”.
وحدة القلوب
لازالت “شجرة الحياة” تستمر بإيلاف مرادفاتها حتى أعمال بينالي الفنون الإسلامية الثاني “ومابينهما” مستهل العام 2025 ـ إذ يتناول مدار أحاديثه دروبًا وسعها السماوات والأرض. حتى تتلوه في ذات العام 2025 الدورة الافتتاحية من بينالي بخارى “وصفات للقلوب المكسورة” حيث تضم بخارى الوجهة الثالثة لأول تصميم فائز بجائزة المصلى “عن النسيج”.
من هنا يتناول رئيس لجنة تحكيم جائزة المصلى – سمو الأمير نواف بن عياف لمحات من مقصد كتاب المصلى الافتتاحي “عابرٌ متجذِّر” ومغزى أبحاثه فيما يلي من إجابات:
- هل لتقديم التمر داخل المصلى هنا في بخارى رمزية معينة إضافة إلى كونه من مقاصد الكرم وحسن الضيافة؟
بكل تأكيد تقديم التمر يحمل بعداً تاريخياً، إلى جانب كونه يرمز للكرم وحسن الضيافة في الثقافة السعودية والإسلامية عموماً. فهو يمثّل حكاية استمرارية حضارية تربط الماضي بالحاضر. لقد كان التمر من السلع التي تنتقل من الجزيرة العربية إلى آسيا الوسطى عبر طريق الحرير، حاملًا معه ليس فقط القيمة الغذائية بل أيضاً الذاكرة الثقافية والروحية. اليوم، عندما نقدم التمر في بخارى، نحن نعيد إحياء هذه الذاكرة ونؤكد على استمرارية التبادل الحضاري بين هذه المناطق.
وﻟﻜﻦ من ناحية أخرى، ربما أكثر أهمية ورمزية، تربط المصلى نفسه بشجرة النخيل علاقة جوهرية، حيث تم تشييده بالكامل من بقايا أشجار النخيل بعد أن تم إعادة توظيفها كمواد بناء، تيمّنا بأساليب البناء التقليدية في المملكة العربية السعودية. بالتالي فإن تقديم التمر في هذا السياق يصبح بمثابة درس عملي في الفلسفة الإسلامية: كيف يمكن للإنسان أن يعيش في تناغم مع الطبيعة، حيث لا شيء يُهدر وكل عنصر له دوره في كل مرحلة. وبالتالي، عندما نقدم التمر داخل مصلى مبني من بقايا أشجار النخيل، فإننا نحتفي بهذا المبدأ العملي للاستدامة والرمزية.
- رغم خصوصية بنية “عن النسيج” المتجذرة من صالة الحجاج الغربية؛ يتمتع المصلى الفائز بمرونة حققت تواجده بداخل دير سان غريغوريو ضمن بينالي البندقية وإلى أوزبكستان عند بينالي بخارى الافتتاحي – كيف تتعاطى هذه الرحلة مع سياقها المحليّ في كل مرة؟
تأتي فكرة نقل المصلى من بيئته الأصلية في جدة لتأكيد طبيعة تصميمه، ولتأكيد مفاهيم التكيف والتفكيك وإعادة التركيب، وهي شروط أساسية بنيت عليها جائزة المصلى منذ البداية، للوصول إلى نموذج قادر على التأقلم مع البيئات الثقافية المختلفة دون فقدان هويته الأساسية. وفي هذا تجسيد حقيقي لطبيعة المساحات الإسلامية التاريخية، ذلك أن المصلى في جوهره ليس مقيداً بشكل معماري واحد، بل هو مفهوم متحرك يتشكل حسب الحاجة والمكان.
ونحن نرى في رحلة المصلى الجريئة إلى البندقية، ومن بعدها الرحلة الكاملة إلى بخارى انعكاساً حقيقياً لطابع المصلى وتجسيداً حقيقياً لما تميّزت به الثقافات الإسلامية تاريخياً من حركة وانفتاح على البيئات والتأثيرات المختلفة. فالعمارة الإسلامية لم تكن يوماً منغلقة على نفسها، بل كانت دائماً في حالة حوار مع السياقات المحلية المختلفة. اليوم، من خلال تواجده في بخارى، يدخل المصلى في حوار مع تاريخ مدينة عريقة كانت مركز للعلوم الإسلامية وطريق للتجارة، حيث تتفاعل المواد المحلية التي دخلت في تشييده مع فضاء جديد لتظهر قدرتها على التجذر في أي بيئة دون التخلي عن جوهرها.

3 لقطات لـ المصلى بداخل بينالي بخارى “وصفات للقلوب المكسورة” 2025، بإذن من مؤسسة بينالي الدرعية – تصوير الفنانة سارة سعد
• ما هي رسالتكم الأوسع في مؤسسة بينالي الدرعية من خلال مساعي جائزة المصلى وعلى المدى البعيد؟
في مؤسسة بينالي الدرعية نعتز بتعددية الفنون التي نحتفل بها ونحاول إبرازها وتقديمها للعالم ونعتبر فن وعلم العمارة جزء أساسي من تلك الفنون والعلوم. رؤيتنا في جائزة المصلى بالتحديد تتجاوز حدود المسابقة المعمارية التقليدية لتصل إلى إعادة تعريف شاملة لدور العمارة الإسلامية في عصرنا الحاضر. فالعمارة الإسلامية هي منهجية في التفكير تقوم على مبادئ العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية والشمولية الثقافية، وهي كلها مبادئ نحتاج لاعتناقها اليوم أكثر من أي وقت مضى.
جائزة المصلى تمثل أداة لإظهار قدرة العمارة الإسلامية على الإبداع والتجديد، وتقديم حلول معاصرة لتحديات عصرنا، من التغير المناخي إلى التنوع الثقافي إلى الحاجة لمساحات الصلاة والعبادة في عالم متسارع. على المدى البعيد، نطمح إلى بناء شبكة عالمية من المعماريين والمفكرين والفنانين المهتمين بالمشاركة في تقديم خطاب متجدّد حول العمارة الإسلامية. نريد أن تصبح جائزة المصلى منصة للحوار والتبادل الثقافي، ليس فقط بين المسلمين وغير المسلمين، بل أيضاً بين التقاليد المختلفة داخل العالم الإسلامي نفسه.
- ما الرابط بين البيان الفني لـ بينالي بخارى “وصفات للقلوب المكسورة” الذي يحوي القلب باعتباره رابطًا بين العقل والروح والجسد وبين سياق “عابرٌ متجذِّر” برأيك؟
هناك علاقة وثيقة بين مفهوم “وصفات للقلوب المكسورة” وفلسفة المصلى كمساحة للاستشفاء. المصلى في جوهره هو مكان للباحثين عن صلة، وعن مساحة تجمع بين القلب والعقل والروح في لحظة واحدة من التأمل والتواصل. وﻣﻦ خلال “عابر متجذر” يحاول المصلى أن يعكس طبيعة الإسلام نفسه – فهو دين عالمي عابر للحدود الجغرافية والثقافية، لكنه في الوقت نفسه متجذر في قيم وممارسات روحية ثابتة. وفي الحالتين، يجسد المصلى قدرته على الانتقال والتكيف مع سياقات مختلفة، مع الاحتفاظ بهويته ووظيفته الأساسية كمساحة للتواصل الروحي والاجتماعي.
عند البدر
تتزامن كبرى لقاءات الدورة الافتتاحية من بينالي بخارى مع اكتمال القمر في كل شهر، ما يذكّر بوحدة مرءانا أينما كنا على هذه الأرض. فعند أوّل بدر وافق يوم 14 ربيع الأول 1447هـ – وبعد العرض “طلوع القمر المكتمل” تقام حفلة “البلوف” بوحي من طبق يخلد أسطورة عشق أوزبكية. لتتخذ “وصفات للقلوب المكسورة” شكل وليمة تتسع علومها لقوى الشفاء عبر الزمن؛ مؤمنة بالزمان كمكون جمعي في تناولنا للحِرَف والطهي والتعافي – وحتى لمّ شمل ثقافاتنا بكل ما تحويه من ترابط في لب كيانها.
“الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف..” ـ صحيح البخاري، زاد المعاد لـ ابن قيم الجوزية، الجزء الرابع، في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج العشق.
ما يدلنا نحو كلمات ديوان “ما ينقش العصفور في تمرة العذق 1988” وتساؤلاتها: هل هناك أصدق من ثمرة الارتواء كجامع يلمّ شمل كل ما يجسده حسّ الحياة؟!. من هنا ترتوي قصيدة “عطش قلبي” من كلمات سمو الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن -رحمه الله- مجيبة ذلك بإحدى الأبيات “أبسقي عطش قلبي اليابس – على شفاهي.. بقول أحبك”.
وعودة لـ “ليلة البدر” من داخل إثراء وأثناء العام 2023 يجيب مهندس الكلمة بدر بن عبدالمحسن بتأنٍّ يشبه “شجرة الحياة” في سكونها. فيقول واصفًا كيف تلمّ مفردة واحدة شمل كل ما يجسده حسّ الوجود “الحب على العموم هو أوسع من كل شيء!.. في نظري هو الحياة، أعتقد: يكاد أن يكون مرادف للحياة. من مِنا لا يحب البقاء فرضًا! ليست علاقة فقط بين إنسان وإنسان مثلًا. الحب الحظيظ اللي يحبه الله ويحب الله ويحبّبه في خلقه، هو حب الخير حب الأمان حب السعادة، فنحن بشكل أو بآخر نحيا الحب ونحب لنحيا”.
ويستمر بيان سموه “إنما لو تحدثنا عن حب الإنسان للإنسان أو العاطفة التي تجمع إنسان بإنسانة؛ فأنا بنظري له أشكال كثيرة وواسعة. أحيانًا هو الذي يحدث.. وبعدها تحاول أن تجد أسبابًا تقدمها لتقول أنك تحبه – هذه تفسر عندما يقولون وذلك أسهل وأوقع؛ أن الحب من النظرة الأولى فرضًا فالنظرة الأولى ما يمكن أن تعرف فيها إنسان. الحب: تصدق أن هناك إنسان خلق لأجلك، رغم أنك تعلم أنك أنت أصلًا لم تُخلق لأجلك! أنت مخلوق لأشياء كثير..”.
ويختتم البدر بيانه بغاية اليقين “هو مرادف لحياتي! أقرب مايشبه الحب هو الحياة”.
الصورة الرئيسية / لمحة من المصلى بداخل بينالي بخارى “وصفات للقلوب المكسورة” 2025، بإذن من مؤسسة بينالي الدرعية – تصوير الفنانة سارة سعد
اقرؤوا أيضًا:
