
أعمال فنية بإلهام من السجاد… من لوحات السجاد المستوحاة من الشرق الأوسط إلى التصاميم الرقمية
يستعين جايسون سيف بالوسائط المتطورة لمشاركة الأعمال الفنية التقليدية مع الجمهور في قالب عصري، من لوحات السجاد المستوحاة من الشرق الأوسط إلى التصاميم الرقمية القائمة على الواقع المعزز…
يتميز الرسام وفنان الجرافيك جايسون سيف بمهارة استثنائية في تقديم الأفكار المألوفة من منظور فريد ومبتكر، سواء كان تحويل التطريزات الشرقية التقليدية إلى لوحات فنية من الخرسانة أو صنع أعمال فنية من الأصول الرقمية. ويقف خلف هذه الرؤية الابداعية شخصية جذابة وثقافة واسعة مع شغف عميق بالفن ظهر واضحاً في كل لحظة من اللقاء الذي أجريناه معه عبر الفيديو طوال 80 دقيقة، حيث لم يتطرق خلاله إلى هواياته الأخرى مثل كرة القدم والجيتار والقراءة إلا لثوانٍ معدودة.
يضحك الفنان الذي ينحدر من أصل سوري وكوبي وهو يتذكر بداية مشواره الفني مع رسم صور السجاد الفارسي الذي زين منزل عائلته في ميامي: “كنت واثقاً بموهبتي بفضل تشجيع المحيطين بي، وهذا ما شجعني على الالتحاق بمدرسة ثانوية متخصصة بالفن. لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة على أرض الواقع لأن المدرسة كانت تستقبل ثلاثين إلى أربعين طالب فقط. وكنت أعلق آمال مسيرتي الفنية على الانضمام إليها، لذلك أمضيت الكثير من الوقت والجهد في إعداد محفظة أعمالي خلال صفوف السادس والسابع والثامن، وتم رفض طلبي رغم ذلك. مما ترك أثراً عميقاً في نفسي كطفل وقررت التخلي عن الفن. وطلبت من والدي الحصول على جيتار كهدية في عيد ميلادي واتجهت نحو العزف في فرق موسيقية خلال المدرسة الثانوية”.
ورغم اختفاء الشغف، تابع جايسون دروس الفنون في المدرسة بسبب درجاته الجيدة في هذه المادة. لكن لم يخطر في باله العودة إلى الفن أبداً بعد خيبات الأمل التي واجهته. إلا أن جانبه الإبداعي كان يدفعه دوماً إلى الاستمرار، وفي نهاية المطاف وجد طريقه إلى عالم تصميم الجرافيك.

ويقول جايسون عن بداياته: “جاءتني الفكرة خلال عملي مع الفرق الموسيقية، حيث كان الجمهور يكلف مصممين بإعداد الشعارات والرسوم للافتات وقمصان التي شيرت. وقررت حينها تصميمها بنفسي لجمع بعض المال، فتعلمت برامج تصميم الجرافيك من خلال موقع اليوتيوب. وبعد العديد من المحاولات الفاشلة، قررت أخيراً ترك الفرقة الموسيقية وشق طريقي في هذا المجال”.
وبدأ الحظ يبتسم للشاب الطموح، حيث تمكن بفضل علاقاته مع العاملين في مجال الموسيقى بالتواصل مع الفنانين على وسائل التواصل الاجتماعي.
“حظيت ببعض الفرص المميزة للتعاون مع فنانين كبار في تصميم الألبومات الفنية والمنتجات والمجوهرات. وعملت تحت إشراف فيرجيل أبلوه الذي كان المدير الفني لكانييه ويست آنذاك، كما قدمت بعض التصاميم لبوشا تي ونيكي ميناج وبيج شون. لكني لم أكن أشعر بالرضا، لأن جميع هذه الأرباح جاءت من توظيف موهبتي في ترجمة رؤية الآخرين بينما كنت أتطلع إلى إبداع أعمالي الخاصة. لذلك، عدتُ إلى الرسم مجدداً وبدأت أستعيد ثقتي شيئاً فشيئاً، وعندها أدركت أنني ربما قد أجد طريق العودة إلى الفنون الجميلة”.
تم قبول جايسون في عدد من كليات الفنون الرائدة، لكنه اختار ممارسة الرسم في الاستوديو الخاص به لمدة ثلاث سنوات. وأنتج عام 2015 أول عمل من لوحات السجاد التي أصبحت اليوم بصمته المميزة في العالم ومحط اهتمام هواة جمع الأعمال الفنية من كل مكان رغم أسعارها التي تتراوح بين 5 آلاف دولار و100 ألف دولار.
وقال مستعيداً تلك الذكريات: “أمضيتُ سنوات في إعداد بعض الرسوم التخطيطية للسجاد قبل إطلاق عملي الأول. فكان المدرسون يشجعوننا على رسم الطبيعة الصامتة، ولم أجد من حولي سوى السجاد المزخرف سواء في منزل عائلتي أو جدتي أو عمتي. ولمستُ أهميته من الناحية التصميمة عند خوض عالم الجرافيك الذي يدمج العوالم الثلاثة التي تحظى باهتمامي، وهي التصاميم والأشكال والنماذج بالإضافة إلى القدرة على ترجمتها من خلال الرسم”.
وصنع جايسون قطعة السجاد الأولى بقياس 150 × 100 سم باعتماد عملية ما يزال يعتمدها حتى اليوم رغم أنه كان يرسم بحرية في بداياته، حيث يصمم ربع السجادة رقمياً قبل نسخ النمط لإنشاء تصميم مستطيل أو دائري بالكامل. ثم ينقل الأنماط المعقدة على القماش يدوياً ويراجع التصميم الرقمي بدقة على جهاز الآي باد، وأخيراً يملأ المخطط المعقد بالألوان الزيتية والحبر والأكريليك للحصول على نتيجة نهائية تشبه السجاد الفارسي الأصيل. ويستكمل العملية مع بعض اللمسات المعتقة في بعض الأحيان، مما يستغرق عدة شهور. وأراد جايسون أن يشارك والديه أولى أعماله الفنية قبل الجميع، لذلك وضع اللوحة ضمن إطار على أرضية الاستوديو، ولم يكتشفا أنها ليست سجادة حقيقية إلا عند مشاهدتها عن قرب. وكان رد الفعل مذهلاً بحسب تعبيره، وبخاصة بالنسبة لأمه التي لطالما كانت أكبر مشجعيه ومنتقديه في الوقت ذاته. ويعزو اهتمامه الكبير بأدق التفاصيل إلى ملاحظاتها المستمرة.
وبعدها، بدأ جايسون بصنع المزيد من لوحات السجاد والبحث في تاريخ أنماط السجاد الفارسي التقليدي ورمزيتها. لذلك قرر زيارة الموطن الأصلي لعائلة والده سوريا، بالإضافة إلى إيران وتركيا والمغرب لإثراء مخيلته: “شعرت برابط عميق يشدني إلى السجاد وزخارفه ويقربني أكثر من تراثي في نفس الوقت”. وللمفاجأة، تبيّن أن أسلافه كانوا أهل كار حرفة التطريز في سوريا، وأعمالهم تشبه إلى حد بعيد أسلوب الأرابيسك الذي يظهر في تصاميم السجاد وكأن الأمر كان مقدّراً منذ البداية: “كان من الضروري أن أتعرف على كيفية صنع السجاد على أرض الواقع والمعاني الكامنة وراءه، لذلك تحدثت مع العديد من الحرفيين والحائكين حول أسلوبهم ومفهومهم للحرف اليدوية، رغم أن أعمالهم بالنسبة لي هي أقرب إلى الفنون الجميلة بما تستغرقه من جهد ودقة وإتقان. وبدأت أتعرف على القواعد المعتمدة وأسباب اختيار مقاس 60 × 90 سم لأتمكن لاحقاً من تعديلها وتجربة أفكار جديدة لتصبح أقرب إلى ذوق أبناء جيلي”.
وتعرّف جايسون على معاني زخارف السجاد من رسوم النباتات والحيوانات، وتعلم كيفية اكتشاف بلد المنشأ والقبيلة البدوية التي تشتهر به ونوعه سواء للزينة أو الأرضية من خلال الأنماط والألوان: “كانت تجربة ممتعة جداً بالنسبة لي، لأني لطالما واجهت صعوبة في العثور على أسلوب يجمع بين الرؤية الجمالية والمنظور المفاهيمي”. ويختار جايسون أنماط وألوان أعماله بحسب الحالة العاطفية التي تنتابه خلال عملية الإبداع، لدرجة أن مشاهدتها تعيده إلى تلك الحالة مباشرة، وهو ما يُدعى بظاهرة الأحاسيس المترافقة:
“أحب الأعمال التي تحتاج إلى مراحل متعددة، حيث يمكنني جذب المشاهدين من خلال تفاصيل الزخارف والتطريزات رغم أنها ليست مثيرة للاهتمام، وقد لا تعني جامعي الأعمال الفنية ممن يركزون على الناحية الجمالية فقط، لكن المهتمين سيرغبون بالتعرف على العمل وقصته، وعندها سنلقي نظرة على بعض الصور المرجعية معاً ونتشارك بعض الأفكار التي ألهمت العمل”.
وعن رأي الحرفيين التقليديين بعمله، قال جايسون: “إنهم سعداء باهتمام الجيل الجديد بإرثهم لا سيما في غياب الدعم للمنتجات التقليدية من السجاد اليدوي والنسيج وأدوات المائدة والخزف في بعض دول الشرق الأوسط التي تعاني من العقوبات. كما تتضاءل هوامش الأرباح في ظل ضعف الطلب، لذلك لا تحظى هذه المهارات باهتمام الأجيال الشابة اليوم وأخشى أن تندثر مع الزمن وتقتصر مستقبلاً على المتاحف. ولا بد لي هنا أن أنوّه إلى الحفاوة والحماس الذي لقيته من الحرفيين بسبب اهتمامي بعملهم”.
وبعد زيارة جايسون إلى المنطقة، ومشاهدة المباني الخرسانية بلونها الإسمنتي في طهران ودمشق، قرر إعادة تصميمها على شكل ألواح واستخدامها كأساس لأعماله، واستعان بوالده للوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة والحصول على شكل يشبه السجاد القديم الذي رآه في متحف السجاد في طهران. ثم تم إضافة أسطح ثلاثية الأبعاد، بما في ذلك المكعبات الخرسانية والأسقف المستعارة.
ولم تخلُ زيارة جايسون للمنطقة من بعض التجارب المحزنة: “تأثرت كثيراً بالحفاوة والتقدير الذي لقيته من الحرفيين لأن زيارتي لبعض البلدان واطلاعي على معاناة الناس والفنانين، جعلتني أشعر بالذنب وأتساءل عن مدى أهليتي للنجاح والرفاهية التي وصلت إليها، وهل كنت لأحقق كل ذلك لو أنني ولدت لدى عائلة مختلفة. كان شعوراً صعباً بلا شك، لكنه دفعني للتعرف أكثر على المنطقة وتقديم المساعدة قدر الإمكان”.
ومن ناحية أخرى، يرى جايسون أن ابتعاده عن المنطقة من الناحية العاطفية والجغرافية منذ سن مبكرة أثر بشكل إيجابي على توجهه الفني: “لاحظت خلال سفري ولقائي بفنانين وأصدقاء من المنطقة أن أعمالهم لا تشبه أعمالي لأن نظرتنا مختلفة للتراث، فهو مشهد مألوف بالنسبة لهم، لكن المغتربين مثلي يتلهفون لاستكشاف المزيد. وهذا ما أشعر به مع الارتباط مجدداً بتراثي”. وربما لذلك كان أغلب جامعي أعماله منذ البداية من جالية الشرق الأوسط قبل أن يتوسع جمهوره في الآونة الأخيرة ليشمل اليوم شريحة واسعة من ذواقة الفن في المنطقة وأوروبا. وظهرت هذه الشعبية بوضوح في معرضه الفردي الأول “شرارة صغيرة في مواجهة غابة ضخمة”، والذي أُقيم في جاليري يونت لندن بداية العام وشهد بيع جميع الأعمال حتى قبل مشاهدتها في بعض الأحيان على الرغم من قيود كوفيد- 19.
وينهمك جايسون اليوم بتجربة وسائط مختلفة ومواجهة تحديات جديدة، بما في ذلك تصميم ورسم عدد من اللوحات والكرات المستوحاة من رياضة كرة السلة لمتجر علامة جوردان الجديد في دبي مول في يوليو. ويعزز بذلك حضوره في الإمارات الذي بدأ مع عرض أعماله في متحف الشارقة للفنون. ليعود بعدها ويشارك في مهرجان الفنون الإسلامية في الشارقة عام 2018 من خلال سجادة ضخمة معلقة بالسقف بمقياس 304× 213 سم تحت عنوان نواة. أما آخر مشاركاته فكانت في معرض أبوظبي للفنون 2019.
ويشرح لنا عن مصدر إلهامه: “أستمد أفكاري من السفر والأصدقاء والمبدعين الذين أصادفهم خلال رحلاتي، لذلك أواجه صعوبة في الحفاظ على الحس الإبداعي والحماس عند الالتزام بمكان واحد بعض الأحيان. وقد أجد الإلهام في أي مكان حتى لو كان مزيج ألوان معين في قائمة طعام أو مبنى”.
أما بالنسبة لمشاريعه في مجال الأصول الرقمية، فتم بيع أول أعماله الرقمية مقابل 100 ألف دولار: “كنت أستكشف هذا المجال مع مجموعة من الأصدقاء كمشروع جانبي. وكانت النسخ الرقمية لأعمالي موجودة كمجرد صور مرجعية في جهاز الكمبيوتر الخاص بي قبل أن أكتشف أن هذه التكنولوجيا الجديدة تتيح لهواة جمع القطع الفنية شراء أعمال رقمية. واستخدمت في آخر أعمالي الرسوم المتحركة، حيث يبدو العمل مجرد لوحة جامدة قبل أن يظهر فوقها طائر ملون بتقنية ثلاثية الأبعاد”.
وتشكل هذه القطعة لوحة فنية مذهلة، وسينفرد مقتنيها بحقوق عرض التغييرات الرقمية على اللوحة من خلال أجهزته المحمولة التي يمكنه من خلالها تشغيل الرسوم المتحركة بواسطة تكنولوجيا الواقع المعزز. ويعمل جايسون حالياً على قطعة ثانية باستخدام تكنولوجيا الأصول الرقمية، وهي عبارة عن لوحة من الخرسانة تأتي مع عرض رقمي يُظهر مسار تطور العمل الفني على مدى عشر سنوات، ويتميز برسالة هادفة وملهمة وذكية.
وتحدث جايسون عن اللوحة التي يعمل عليها: “يجسد العمل بشكله النهائي نسخة محزنة لما بدا عليه في البداية، وتشكل اللوحة المادية لقطة سريعة أو مقتطفاً لما كانت تبدو عليه من قبل وكأنه عرض أداء لم نكن لنشهده لولا هذه التكنولوجيا. وباعتباري أسعى دوماً لتحدي نفسي وتجربة أشياء جديدة، أعتقد أنها هذا العمل سيكون الأول من نوعه في هذا المجال وبخاصة مع غياب الأعمال المفاهيمية القائمة على هذه التكنولوجيا”.
يتميز جايسون بسعيه الدائم للخروج عن المألوف. ووصل به الأمر إلى رفض أعمال تكليف فنية ضخمة بسبب طلب المشترين تغيير ألوان اللوحة، وذلك التزاماً بأصالة العمل وليحظى بالوقت اللازم للتركيز على استكشاف مجالات جديدة. وأثمر ذلك عن مكاسب مادية ونمو في مهاراته الفنية وقدرته على إلغاء الحواجز بين الفنون الرقمية والفنون الجميلة. كما يحظى بخبرة عميقة ومهارات تقنية عالية تجعل منه نموذجاً يُحتذى به للفنانين الهواة والمتمرسين على حد سواء.